مواضيع مختلفة في التربية
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك ، أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علمًا ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام ؛ نتابع شرح بعض الحكم العطائية ، لابن عطاء الله السكندري ، ومن هذه الحكم : "من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل "، ولابد من التنويه إلى أن السالك إلى الله يمر بمراحل ويمر بأحوال ، فقد ينجو من المعصية فيصير تائباً ، وقد يمنحه الله عملاً صالحاً ، وهذا شيء طيب ، ولكن مع كل مرحلة صعوباتها ، ومنزلقاتها، وحينما يستقيم ويعتد باستقامته ، ويرى أنه فوق الناس ، فهذه الاستقامة أحياناً تحجبه عن الله ، لأنه اعتد بها ، واستعلى على خلق الله ، أما الموقف الكامل ، فموقف سيدنا يوسف قال :
(سورة يوسف)
فأنت إذا كنت عفيفاً ، فهذا من معونة الله لك ، ولو أن الله سبحانه وتعالى ضعّف مقاومتك لوقعت في المعصية ، وهذا هو التوحيد ، وهذا معنى قوله تعالى :
(سورة الفاتحة)
والإنسان حينما يستقيم يجد مزالق ، فحينما يسلك الإنسان طريق الإيمان يجب أن يكون واعياً ، وأن يكون يقظاً ، وقد يطيب أن نعمق بعض فهمنا للإيمان ، فطالب العلم يريد شيئًا بمستوى تطوره ، ومستوى رقيه ، فالاستقامة من نعم الله عز وجل الكبرى ، ولكن حينما تعتد بها وتراها من إنجازك وقوة إرادتك ، فهذه تصبح حجاباً لك عن الله ! فيجب أن تفتقر إلى الله ، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً ، ومن المنزلقات التي يمكن أن يقع بها المؤمنون وهم مستقيمون على أمر الله أن يعتدوا باستقامتهم ، وأن يزدروا مَنْ دونهم ، ولو رأى إنسان عاصيًا ، فيجب أن قلبه يشكر الله في قلبه على نعمة التوبة ويدعو له بالتوفيق ، أما أن يشمت به وأن يستعلي عليه ، فهذا نقص في كماله ، وقد قال بعض الأدباء : "رقصت الفضيلة تيهاً بنفسها ، فانكشفت عورتها "، وأنت حينما تتيه بالفضل ، تقع في النقص ! وتقع في عدم الفضل.
فالإنسان إذا استقام ، ومن منزلقات الاستقامة أن يعتد بها ، وأن يراها من كسبه الشخصي، ومن جهده ، وأن ينسى فضل الله عليه إذ أعانه عليها ، فنسيَ قوله تعالى :
فأنت في طاعة الله ، إذا أعانك الله عليها ، وهذا هو الافتقار إلى الله عز وجل ، والآن انتقلت إلى مرتبة العمل ، فلك عمل في الدعوة ، وفي مساعدة المساكين ، وفي إنشاء المساجد ، وفي العلم أحياناً ، وهذا العمل قد يكون عملاً عظيمًا ، فما الذي يفسده ؟ أن تعتمد عليه ، وفي الدعاء : "اللهم رحمتك أوسع من عملي "، واعتمادي على رحمتك أقوى من اعتمادي على عملي ، فالذي يعتمد على عمله يورِثه ذاك الاعتماد نقصانَ الرجاء عند وجود الزلل ، فإذا زلت قدمه وقع في اليأس ، لأن اعتماده كان على عمله ، لا على رحمة الله عز وجل .
وبالمناسبة توجد صعوبات كثيرة وأنت في طريق الإيمان ، وفي طلب العلم ، وفي المسجد، ومع جماعة المؤمنين ، تجد صعوبات كثيرة ، وقد ذكرت لكم من قبل أن القّمة ليس من السهل أن تصل إليها ! إنها صعبة ، ومع ذلك لو وصلت إليها ، فهناك مزلق خطير وأنت في قمة النجاح ، أن تصاب بالغرور ، والغرور أخطر مرض يصيب الناجحين ، فلو نجحت في عمل صالح ، أو في دعوة إلى الله ، أو في خدمة الخلق ، أو في إنجاز كبير ، فهذا النجاح حوله خطر ، هو خطر الغرور ، وذات مرة ضربت مثلاً : إن القمة قمة الجبل ، والطريق إليها صعب ، وهو طريق ملتوٍ وعر متعب ، ولكن إذا وصلت إلى قمة هذا الجبل ، فهناك طريق زلق يجعلك في الحضيض في ثانية واحدة ! إنه الغرور .
وأحياناً فالإنسان كثيرًا ما يصاب بالغرور ، والغرور يحجبه عن الله عز وجل ! حتى إذا كنت كاملاً مع الكمال ، وإذا اعتمدت على الكمال ، واعتبرته من إنجازك ، ومن جهدك ، ففيه غرور ، لذلك ورد في بعض الأحاديث : أن الذنب شؤم على غير صاحبه ، إن ذكره فقد اغتابه ، وإن عيّره ابتلي به ، وإن رضي به فقد شاركه في الإثم " ، حتى أنت لو لم تذنب ، وغيرك أذنب، فأنت معرَّض إلى ثلاثة أخطار ؛ خطر أن تعيِّره فتبتلى به ، وخطر أن تذكره للناس فقد اغتبته ، وخطر أن تقره عليه فقد شاركته في الإثم !
أيها الأخوة ؛ إنَّ النفس تحتاج إلى عناية ، وسيدنا عمر رضي الله عنه يقول : تعهد قلبك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، فرعونات القلب حُجُبٌ بينك وبين الله ! والكِبْر حجاب ، والاعتماد على العمل حجاب ، والنبي اللهم صلِّ عليه كان قدوة لنا في الأخذ بالأسباب ! فالأخذ بالأسباب هذا موضوع يحتاجه المسلمون في مثل هذه الأوقات الصعبة ، وهم في أمَسِّ الحاجة إلى مفهوم الأخذ بالأسباب ، فقال له : يا رسول الله أعقلها أم أتوكل ؟ إنها ناقة تركها بلا عقل ، قال : أعقلها أم أتوكل ؟ توهم هذا الأعرابي أن هناك تناقضاً بين الأخذ بالأسباب وبين التوكل على الله ، فماذا أفعل يا رسول الله ؟ أعقلها وآخذ بالسباب ؟ أم أتوكل على الله وأدعها سائبة؟
عَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ ؟ قَالَ : اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ
(سنن الترمذي)
فالأخذ بالأسباب لا يتناقض مع التوكل ، بل يتكامل معه ، وتوجد نقطة مهمة وهي أن الله عز وجل جعل لكل شيء سببًا ، فهذه سنّته في خلقه ، وخَلَقَ الكونَ وفق نظام دقيق ، وأنت حينما لا تحترم هذا النظام ، فأنت لست عبداً لله ! وبعض الأمثلة : قال لك الطبيب : الملح يرفع لك الضغط ، وأنت ضغطك مرتفع ، أخي لا تسمع ، كل إنّه طعام لذيذ ، وأكثر من الملح ، وتوكل على الله ، هذا ليس كلامًا إيمانيًا ، ولا كلامًا علميًا أبداً ، مثلاً : فاكهة تحتاج إلى غسيل ، سمِّ الله ولا يضر مع اسمه شيء ، هذا ضعف في العقل ! من أكل التراب فقد أعان على قتل نفسه.
أرى والله أعلم أن التأدبَ مع قوانين الكون من لوازم العبودية لله عز وجل ، فالله عز وجل لا يخرق هذه القوانين إلا لضرورة ماسَّة ، أرسل نبيًّا ، فقال : أنا رسول الله ، فالكلام الأولي أنت كاذب لست رسول الله ، فماذا يفعل ؟ لابد له من أن يأتي بمعجزة تثبت أنه رسول الله ! فما المعجزة ؟ هي خرق القوانين ، فخرق القوانين يكون لنبي من أجل أن يتحدَّى الناس الذين كذّبوه، فالله عز وجل يخرق الأسباب ، وسيدنا عيسى من دون أب ، فهذا خرق للنظام العام ، نظام الإنجاب من ذكر وأنثى ، وسيدنا موسى ضرب البحر فصار طريقاً يبساً ! وهذا خرق للقوانين ، وسيدنا إبراهيم أُلقي في النار فلم تحرقه ، فهذا خرق ، لكن هذا الخرق للأنبياء لحكمة بالغة ، لإثبات أنهم رسل من عند الله عز وجل ، أما كل إنسان آمن بالله فهل يجب أن يخرق الله له القوانين ؟ هذا يسبب الفوضى ! وهذا ما أراه ، فالذي لا يحترم نظام الله عز وجل وقوانينه هو ليس عبداً لله عز وجل .
فالأخذ بالأسباب واجب ، ولذلك أوضح مثلاً على ذلك ؛ فسيدنا عمر رضي الله عنه هاجر ، ولم يأخذ احتياطًا ، ولا اختفى ، ولا سار مساحلاً ، ولم يمحُ الآثار ، ولم يأتِ بالأخبار ، بل تحدَّى الناس أمامهم جميعاً ! من أراد أن تثكله أمه فليلحقني إلى هذا الوادي ، إنّه شيء يحيِّر ، والنبي لم يفعل ذلك ، وسيدنا رسول الله خرج من مكة متخفياً ، وسار مساحلاً ، واختبأ في غار ثور ، وكلَّف من يمحو له الآثار ، ومن يأتيه بالأخبار ، ومن يأتيه بالطعام ، واستأجر دليلاً مشركًا رّجح فيه الخبرة على الولاء ! يا ترى أيهما أصوب ؟
يا إخواننا الكرام : النبي مشرّع ، ولو أن النبي الكريم فعل ما فعله عمر لعدّ أخذ الاحتياط حراماً ، ولعدّ الأخذ بالأسباب حراماً ، ولعدّ ترك الحيطة واجباً ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام مشرّع أخذ بالأسباب كلها ! فخرج متخفياً ، وسار مساحلاً ، واختبأ في غار ثور وقت شدة الطلب، وعيّن له من يأتيه بالأخبار ، ومن يمحو له الآثار ، واستأجر دليلاً للطريق رجّح فيه الخبرة على الولاء ، ثم وصلوا إليه ! وصلوا إلى غار ثور !
هنا النقطة الدقيقة الحسَّاسة ، ولو أنه اعتمد على هذه الأسباب لانهار عند وصول القوم إليه، فلقد أخذ بها تعبداً ، ولم يعتمد عليها ، إنه يعتمد على الله عز وجل ، والحقيقة هذا موقف دقيق وحسَّاس ، ونحن في أمس الحاجة إليه كل يوم ! ونحن في طريق عن يمينه وادٍ سحيق ، وعن يساره وادٍ سحيق ، وهذا الطريق ضيّق ، إنه الطريق الذي يجنح بين التوكل والأخذ بالأسباب ! فتأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، وتتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، وهذا هو الموقف الكامل.
والشرق الآن لم يأخذ بالأسباب ، يقول لك : إيمان ، فالإيمان يلزمه استعداد ، والعدو يعمل ليلاً ونهاراً ، نحن نقول : نحن مؤمنون ولم ينصرنا الله عز وجل ! فلا يكفي الإيمان ، إذْ لابد من الاستعداد .
(سورة الأنفال)
ولابد من الإعداد ، ومن الإيمان ، وكلٌّ منهما شرط لازم وغير كافٍ ، فالغرب أخذ بالأسباب ، واعتمد عليها فأشرك ، ونحن لم نأخذ بها فعصينا ، والموقف الكامل الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام ، أخذ بكل الأسباب ، واعتمد على الله ، فعَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي الْغَارِ : لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا ! فَقَالَ : مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا *
(صحيح البخاري)
وفي رواية أخرى : قال : يا رسول الله وقعت عينهم علينا ، قال : يا أبا بكر ألم تقرا قوله تعالى :
(سورة الأعراف)
وهذا الذي يحتاجه المسلم اليوم ، فأعداء المسلمين أقوياء ووحوش ! أعداء المسلمين أغنياء، وأذكياء ، لكنه ذكاء شيطاني ، والله لا يقبل منا أن نتوكل عليه هكذا ، فلا بد أن نعمل ، لا بد نأخذ بالأسباب ، ويكمل هذا الموضوع هذا الحديث الشريف عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ ، فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *
(سنن أبي داوود)
أهكذا تستسلم ، ولا تفعل أي شيء أبداً ؟ ماذا نفعل ؟ قدّم طلبًا ، وصّل ، وتحرك ، وهناك طرفة رُوِيَتْ ولها معنى عميق : أن رجلاً قال : الله هو الرزاق فلماذا أعمل ؟ جلس في الشيخ محي الدين ! وجاء رجل معه صفيحة ولم يتكلم ولا كلمة ، ونسي أن يعطيه ، فجاء رجل معه خبز لم يعطِه ، وفي المرة الثالثة سَعَلْ فلفت النظر فأعطوه ! إذًا تحرَّك واعطُس ، فلو توكلتم على الله حق التوكل ، كما قال عليه الصلاة والسلام ، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا *
(رواه الترمذي)
الطير ماذا فعلتْ ؟ تغدو خماصا و تروح بطانا ، تغدو : إذن توجد حركة ، والمسلمون الآن في أمسِّ الحاجة لهذا المعنى ؛ أن نأخذ بالأسباب ، المسلم علمي ، إذا مرِض ابنه ماذا يفعل ؟ يبحث عن أفضل طبيب ، ويتلقى التعليمات بدقة ، وينفذها بحذافيرها ، ويتصدق ، ويقول : يا رب توكلت عليك ، يا رب اشفِ ابني ، فهذا هو المؤمن ، ولا نُحتَرم إلا إذا كنا هكذا ! وميزان الحضارة الآن يجب أنْ نكون هكذا .
يتسوق بضاعة سيئة بسعر غالٍ ، إنها لا تباع ، فيقول : الله لم يوفقني ، فأنت أين عقلك ؟ ولماذا لم تقم بدراسة دقيقة للسوق ؟ ولماذا لم تلاحظ جدوى البضاعة ؟ هل سألت عن أسعارها ؟ ومن لك منافس بالسوق ؟ فهذه يلزمها دراسة ، وهذا المسلم الساذج البسيط الذي لا يتحرك حركة، إنّه مرفوض الآن ، لأن الحياة اليوم فيها تنازع مخيف ! وحسبَ القوانين الإلهية ؛ القوي الذي يتحرى الأسباب هو أقوى من المسلم الذي لا يأخذ بالأسباب ، فالمسلمون الآن لا ينجيهم من أعدائهم الشرسين إلا أن يأخذوا بالأسباب وأن يتوكلوا على الله ، فإن أخذوا بها واعتمدوا عليها كانوا كالغربيين الذين وقعوا في وادي الشرك ! وإن لم يأخذوا بها كانوا كالسُّذَّج الذين توكلوا على الله عز وجل توكلاً ساذجاً .
سيدنا عمر رأى أشخاصًا في موسم الحج فقال : من أنتم ؟ قالوا : نحن المتوكلون ! قال : كذبتم ، المتوكل من ألقى حبة في الأرض ثم توكل على الله ! أنا والله أتمنى على إخواننا الكرام أن يكونوا علميِّين ، يأخذون بالأسباب ، ويتوكلون على الله ، وهذا هو الموقف الكامل ، ادرس وخذ بكل الأسباب ، ثم قل : يا رب وفقني ، أمّا : وفقني ، من غير حركة ، ومن دون سعي ، ومن دون إتقان عمل ، ومن غير ضبط المواعيد ، ومن غير دراسة للسوق ، فهذه هي سذاجة المغفل ، لا يحميه القانون ، والمغفل لا يستحق نصر الله عز وجل بهذه السذاجة والبساطة ، فمن علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل .
والآن أخذت بالأسباب الكاملة ، وبقي عندك قضية إيمانية ، فيجب أن تعتمد على الله الاعتماد الكبير ، وأخذت بالأسباب ، وعليك أن تعتمد على الله ، وهذا المعنى فيما أرى أنّ المسلمين في أمسِّ الحاجة إليه في دنياهم وحياتهم ، ومساكنهم ، وتجارتهم ، وتأمين طعامهم ، وتأمين عمل لأولادهم ، وتأمين مستلزمات حياتهم .. فيجب أن يأخذوا بالأسباب ، وأنْ يتوكلوا على الله عز وجل .
والمشكلة أن التوكل من عمل القلوب ، والأخذ بالأسباب من عمل الجوارح ، فإذا جعلتَ التوكل من عمل الجوارح لم تستفِد شيئاً ، وهذه أكبر مشكلة ، لأن التوكل الذي هو من عمل القلب أصبح من عمل الجوارح .
وفي حياتنا مغالطات ، فطبيب مهمل ، يموت المريض ، فيقول لك : انتهى أجله ، سبحان الله ، ولا إله إلا الله ، فهذا كلام فيه مغالطة ، وقد ورد في بعض الأحاديث : " من طبَّب ولم يُعلَم منه طب فهو ضامن " فيجب أن يدفع الدّية ، وما يجري في الغرب أصْوَب مما نفعله نحن ، فإذا أخطأ الطبيب يحاسب ! أما أن موضوع "انتهى أجله" فهذا ليس عملك ، وأمامك دليل قويٌّ ؛ هو حديث الإفك ، قال لي أخ منذ مدة : هناك مريض أجرى قسطرة ، فسمعت أنه لا يجوز أن تُجرَى له مرتين ! فلاحق المريض الطبيب وقال له : أجرِ عملية قسطرة ، ولم يقل له : أنت قمت بها سابقًا؟ أجرِيتْ له فمات ! ألا سألته هل أُجرِيتْ له سابقاً أم لا ؟ فكان على عجلة فقال له : أجرِ عملية قسطرة ، فالمرة الثانية كانت نهايته بهذه القسطرة ، فهذا بالميزان الإسلامي يحاسب الطبيب حسابًا عسيرًا ، لأنه سبب موت إنسان ، فما الفرق بين إنسان قتل إنسانًا خطأ ، وليس قصداً ، عليه ديّة وصيام ستين يومًا متتابعة ، وإنسان قتل إنسانًا تقصيراً ، فقد يكون يسير الإنسانُ بسرعة عشرة فيمر طفل أمامه فيدهسه ! فعليه الدية .
(سورة النساء)
إذا كان الخطأ من الطفل ، فالإنسان يحاسب ، وإذا كان الخطأ من الطبيب لأنه أهمل وقصّر فيجب أن يحاسب ، الدليل ؛ تخيّل أن السيدة عائشة زوجة النبي عليه الصلاة والسلام يقال عنها : زانية ! وزوجها رسول الله ! فهذا الشيء هل يحتمل ؟ إنه لا يحتمل ، بل شيء فوق طاقة البشر، وكل رجل منا يتحمل ألف مشكلة في بيته ، أما أن تتهم زوجته بالزنى ، وأن يشيع الخبر في المدينة كلها ، فهذا الذي حدث ، وهذا الذي سمح الله به ، فقال تعالى :
(سورة النور)
وبما أن الله سمح بهذا ، فلدينا قاعدة ذهبية مريحة ؛ إنه لكل واقع حكمة ! فهذا الكون ملك الله، ولا يليق أن يقع شيء في كونه دون إرادته ، ودون أن يسمح له ، ولا يقع شيء في الكون إلا إذا أراده الله ، فمادام الشيء قد وقع ، فلهذا الوقوع حكمة ، سواء علمناها أم لم نعلمها ، نكشفها أو لا نكشفها ، إذْ لكل واقع حكمة ، وهذه قاعدة ، وطبعاً لها قاعدة أوسع : كل شيء وقع أراده الله ، وكل شيء أراده الله وقع ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق ، فإنه شيء قطعي ، فالإفك وقع ، وكان من الممكن ألا َّيقع .
وأجمل ما قرأت في التفاسير أنه يوجد اثنتا عشرة حالة ؛ كل واحدة منها كانت تلغي حديث الإفك ، فعندما حملَ أصحابُ رسول الله هودَجَ السيدة عائشة ووجدوه خفيفًا ، فأين هي ؟ بحثوا عنها فوجدوها ، وانتهى الأمر ، والتغى الحديث ، وضاع عقدها ، فلو لم يضِع عقدها لما كان الإفك ! لقد ذهبت تبحث عنه ، وابتعدت عن مكان الهودج ، إنه خيط قد انقطع ، وهو سبب حديث الإفك ! حُمِل الهودج فشعروا أنه خفيف ، فبحثوا عنها فوجودها ، وهي قصة طويلة ، ولو أن مسطح لم يكن متأخرًا ، لما بلغه الخبر بما تكلموا إلى آخره .
توحيدياً سمح الله به ، وتوحيدياً عدّه الله خيرًا ، والله يحاسب الذي روّج الخبر ، قال :
(سورة النور)
انظر فإنّ التوحيد لا يلغي المسؤولية ، إذا قصَّر الطبيب فمات المريض وقال : ترتيب أجله، لا إله إلا الله ، إنه ترتيب يدك ، جاء أجله ، لا يلغي محاسبة الطبيب ، والتوحيد ليس لك علاقة فيه، توحيدياً مات بأجله ، أما جزائياً فأنت مسؤول عن موته ، وهذا يا إخواننا كلام دقيق، والمسلمون يقعون في مغالطات كثيرة ، فيلغون أخطاءهم كلها بالتوحيد ، أخي درست ولم أنجح ، واللهُ لم يكتب لي أن أنجح ، ما هذا الكلام ؟ هذا كلام مضحك ، كلام تشمئز منه النفوس ، فأنت مقصِّر ، ولم تدرس ورسبت بالعدل ، أو باستحقاق ، ثم تقول : اللهُ لم يكتب ليَ النجاح ؟ وأكثر المسلمين بهذه التصورات ، وأنا باعتقادي هذا سبب تخلفهم ، وسبب أنهم الآن في المؤخرة وليسوا في المقدمة ، لأنهم لم يأخذوا بالأسباب .
فانظر إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى التابعين ، وإلى القرون الثلاثة الأولى ، وإلى المؤمنين الصادقين ، إنه شيء عجيب ، أخذوا بالأسباب من أعلى درجة ، وتوكلوا على الله من أعلى درجة ، وهكذا القرآن : وأعدوا لهم ، والآن لو أخذنا بالأسباب فلدينا صعوبات أخرى ، أن نعتمد عليها وننسى الله !
رجل فهيم ، وأموره محكمة ، وكل شيء لديه مدروس ، تكلم كلمة فيها سوء أدب مع الله ، فقال : الدراهم مراهم ! وكل شيء يَنحلُّ بالمال ، فالله عز وجل أدخله السجن ، وبقي فيه ثلاثة وستين يومًا بالمنفردة ، قال لي : كل يوم يأتيني ألف خاطر ، أن الدراهم مراهم ؟ فتفضل وحُلّها بالمال ، إنها لا تُحلُّ ، فأنت برحمة الله ، وبتوفيقه ، وحفظه لك ، وليس بذكائك .
فلذلك أيها الأخوة ؛ قضية التوكل والأخذ بالأسباب من أخطر الموضوعات في حياة المسلمين! وخطؤهم الأول أنهم لم يأخذوا بالأسباب ، وكل شيء له سبب ، قال :
(سورة الكهف)
فإذا ركبتَ مركبة في طريق سفر ، فوقفت فجأة في صحراء ، ماذا تفعل ؟ يا رب يسِّر لي؟ لا ، هذه أخِّرها قليلاً ، تفتح غطاء المحرك وتبحث عن الخطأ فتصلحه ، يا رب لك الشكر ، ولك الحمد ، افتح غطاء المحرك ، وابحث عن شريط مقطوع ، وعن مشكلة ، وعن خطأ ، فعقلنا عقل طوبائي ، وليس عقلاً علميًّا ! ونحن بحاجة إلى عقل علمي ، أيْ أن نتعامل مع الأشياء وفق منهج الله ، ووفق الأسباب والمسببات ، وأن نتعامل مع منهج الله والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلم عندما توفي ابنه إبراهيم ، وشاءت حكمة الله أن تكسف الشمس لموته ، هذا ما فهمه الصحابة ، إذْ ربطوا كسوف الشمس بموت إبراهيم ، فالنبي بلغه ذلك ، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ ، فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ،ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الأُولَى ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ ، فَخَطَبَ النَّاسَ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا ، ثُمَّ قَالَ : يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا *
(صحيح البخاري)
هذا هو الموقف العلمي ، كنت مرة بالعمرة ، فسمعت كلامًا عن المدينة غير معقول أبداً : مفادُه أنّ هناك أنوارًا تصعد من المقام النبوي ! أنوار للسماء ! ما هذه النورانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله سمعتها من واحد واثنين وثلاثة وأربعة ... وذهبت إلى المدينة وأنا أحرص على حضورِ درس علم هناك ، فحضرت درس علم بين المغرب والعشاء ، ورجل أحترمه ، قال: يا إخوان اتصلت بأمير المدينة ، فأبلغني أن هذه الأنوار الساطعة من مقام النبي هي أشعة الليزر ! اليوم يوجد لدينا بناء يشع منه أشعة الليزر أخضر ، انظر إلى الموقف العلمي ! النبي منهجه السنّة، منهجه صلى الله عليه وسلم من الأحاديث ، بهذه التوجيهات الرائعة ، وبالموقف الكامل ، هذا هو ، ولا يوجد داعٍ لأن ترى أنوارًا صاعدة وهابطة ، لا حاجة في ذلك ، اقرأ السنّة وتعلم منها ، واجعله أسوة لك وقدوة .
ذات مرة ضربت مثلاً ، والشيء بالشيء يذكر ؛ هناك إنسان عالم كبير له حوالي ثلاثمائة أو أربعمائة مؤلف ، ويحمل أربع أو خمس دكتوراه ، وعنده حاجب لا يقرأ ولا يكتب ، فهذا العالم له مكتب ، ومكتبة ضخمة ، وكرسي واسع ، ففي غياب هذا العالم جلس هذا الحاجب على كرسيه وراء المكتب ، فهل يرقى بهذه العملية برأيكم ؟ لا ، لا يرقى ، يبقى هذا الحاجب أمّيًّا وجاهلاً ، ويبقى سيده عالمًا كبيرًا ، أما لو أخذ الحاجب كفاءة ،أو إتمام مرحلة ، وسار في طريق العلم ، فأخذ الكفاءة وأكمل ، وأخذ البكالوريا ، وأكمل لكان أرقى له .
وثمَّة مثل آخر ؛ هذه كلها من أمراض المسلمين ؛ نتبرّك ، والتبرك وحده لا يكفي ، وبالمناسبة أنا لا ألغي التبرك ، ولا أعتدُّ به لدرجة أني ألغي عملي الصالح ، وعندما تصلي بمصلى النبي تبكي ولا يوجد شك ، وثمّة صلَّى النبي ، وهنا سجد ، وكان وراءه سيدنا الصديق والصحابة ، فلا بد أن تتأثر ، ولكن لا تعتمد على التبرك وحده ، اعتمد على تطبيق منهج رسول الله ، فهذا الأكمل .
مثل آخر : لو أن عالمًا كبيرًا له ابن جاهل ، وهذا الابن مهما مدح أباه ، ولو أمضى كل حياته يمدح والده ، فالأب عالم والابن جاهل ، تجد وقد تجلس في عقود القران فمديح رسول الله شيء رائع ، وتبكي أحياناً ،ولكن يا تُرى إذا مدحناه طوال حياتنا وبيتنا ليس إسلاميًّا ، ولم نطبق منهجه ، فصدِّقوني أن هذا المديح لا قيمة له ! لأني أنا أملك دليلاً ، قال تعالى :
(سورة آل عمران)
قلت لكم سابقاً : مسبح مختلط ، والنساء يسبحن شبه عاريات ، وصاحب المسبح أقام مولدًا نبويًّا في المسبح نفسه ، ودعا الناس ، وفِرَقَ الإنشاد ! وجاء أناس وألقوا كلمات ، شيء جميل ! وعملُه من أكبر المعاصي ! ومع ذلك دعا فرقة نشيدٍ ومدحوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاء أناس والقوا كلمات وبارك الله بأبي فلان ، وهكذا أصبحت حياتنا ، تراها من غير تطبيق للإسلام، ولكن يوجد مظاهر ، ومظاهر صارخة للإسلام ، والآية الكريمة :
(سورة الأنفال)
فما دمت يا محمد ، وما دامت سنّتك مطبقة في حياتهم فهم في مأمن من عذاب الله ! وماداموا يستغفرون فهم في مأمن آخر ، أما لا يطبقون ولا يستغفرون ، إذاً ما العمل ؟ والِله امرأة اتصلت وقالت لي : أستاذ أنا لدي زجاجة خمر ، ولكنها غالية الثمن ، وحرام أن أكسرها ، فهل أهديها لأحد فيشربَها ! هذه صاحبة دين ، وتخاف من الله ، وجاءتها هدية ، فهل من المعقول أن تكسرها ؟ فهناك رجل يشرب فتهديها له لتكسب بياض الوجه ! ورجل آخر قال لي : باقة الورد هل يمكن أن أحسبها من الزكاة يا أستاذ ؟ يريد أن يحسب ألف ليرة ثمن الورد من الزكاة ! ويقدمه في عرس ! عجبت لهذا وقلت في نفسي : أين يسير هؤلاء الناس ؟ إنهم يسيرون في متاهات ، وهذا الدين منهج ، ولو أخذت شكلياته لا تستفيد شيئًا !
إذا أحضرت إشارة سيارة المرسيدس ووضعتها على عربة الحصان فإنها تبقى عربة ! ولا تصبح سيارة ، فأرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بالحكمة الوحيدة اليوم : "من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل ".
والحمد لله رب العالمين