لوحة لحسن جوني
في كتابه «منارة الفقهاء الشيخ موسى مغنية» (دار البلاغة)، يعود يوسف نظام الدين فضل الله إلى حقبة مفصليّة من تاريخ جبل عامل عند مفترق القرن العشرين. استعادة موثّقة لمسيرة العلّامة اللبناني، ومآثره بين تربية ولغة وفقه، والأثر الذي تركه على جيل كامل من العلماء والأدباء
د. مصطفى بزّي *
يحاول يوسف نظام الدين فضل الله في كتابه «منارة الفقهاء الشيخ موسى مغنية» (دار البلاغة)، إعادة رسم صورة البيئة العلمية والثقافية التي كانت سائدة في جبل عامل، بين نهاية القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين. يروي الكتاب سيرة جدّه العلامة الفقيه واللغوي الشيخ موسى مغنية (1859 ـــــ 1939)، وفي الوقت ذاته يسلّط الضوء على أوضاع التربية والتعليم في تلك الحقبة. العلامة مغنية أحد أبرز الفقهاء واللغويين، وكان له الدور البارز في المحافظة على ديمومة التعليم ومنع انقطاعه في الجبل العاملي بعد إقفال المدارس وانسداد الأبواب أمام الطلبة.
أمكن هذا العالم العاملي أن يُبقي شعلة التعليم متقدةً، ويصبح مقصداً للطلاب من شتى أرجاء الجبل العاملي، ويسهم في النهضة التعليمية على مستويين هما: اللغة والأدب، والفقه، وذلك من خلال التعليم في المدارس، والتعليم المستقل حين تقفل المدرسة أبوابها.
يبحث الكاتب في مؤلفه في سيرة واحد من أولئك العلماء العامليين الكبار، عن نابغة ذاع صيته، وتبدّت شهرته في أكثر من مجال لغوي، وأدبي، وشعري وفقهي. ينتمي الشيخ موسى إلى عائلة مغنية، من بلدة طير دبّا، قضاء صور، وهو ابن بيت علمي كبير. كان جدّه لأبيه الشيخ محمد أحد الأبرار الأتقياء العابدين الزّهاد في بلدة طير دبّا، كذلك كان أبوه الشيخ جعفر من العلماء الأفاضل.
في هذا البيت الديني العلمي، نشأ الشيخ موسى. وكان يواكب والده أثناء إلقائه الدروس على طلابه، وفي جلسات الشعر والأدب، والمناظرات التي كانت تحصل، وتأثر به في مجال اللغة، وساعده كل ذلك في بناء ونسج شبكة علاقات مع العلماء والفقهاء الذين كانوا يرتادون مجلس والده. يتحدث الكاتب عن حياة الشيخ موسى، ويختصرها في ثلاث مراحل.
المرحلة الأولى: كانت من خلال دراسته على يدي أبيه، حيث تربّى في أحضانه، وتعلّم لديه مع مجموعة من أترابه وأقاربه وأبناء عمومته، وتنقّل معه كما هي العادة بالنسبة إلى أبناء علماء الدين، أو الطلاب الآخرين. بعد وفاة والده، بدأت رحلة طلب العلم في المدارس العاملية المشهورة آنذاك. كان خلال دراسته مجدّاً محصّلاً في مجالات العلوم المختلفة، بخاصة في الفقه واللغة والشعر. وبقي في المنطقة، يتدرّج في سلّم العلوم الدينية وغيرها طبيعياً، حيث هضم كلّ مرحلة من مراحل تلك العلوم، وكان مقصداً لطلاب العلم والعلماء، يشجع على المعرفة والمثابرة، ومحاربة الجهل، والمحافظة على ما في مكتبات البيوتات العلمية والدينية.
المرحلة الثانية: يتحدث الكاتب عن فترة وجود الشيخ موسى في مدرسة بنت جبيل (1881 ـــــ 1887). وهي فترة غنية بالنسبة إليه، إذ كان يحبِّذ الاستقرار، وتوافر له ذلك في بنت جبيل التي عرفت عصرها الذهبي العلمي في مجال الفقه والعلوم الدينية مع الشيخ موسى شرارة الذي كانت تربطه بالشيخ جعفر والد الشيخ موسى علاقة وطيدة.
❞معظم تراثه الشعري والفقهي مفقود، لم يبق منه إلّا قصاصات مبعثرة❝توطدت العلاقة بين السميين موسى شرارة وموسى مغنية، حيث عملا معاً للنهوض بجبل عامل. وكان من نتاج العلاقة وثمارها مدرسة بنت جبيل الدينية، حيث تدريس الصرف والنحو، والبيان، وعلم المنطق وعلمي الأصول والفقه، والشعر. وقام الشيخان بعملية إصلاحية، وازنت بين الإرث التقليدي للتعليم الديني، ومتطلبات العصر وحاجاته. وقد برع الشيخ موسى مغنية في علم اللغة، حيث عدّها مكوّناً أساسياً من مكوّنات المحافظة على التراث العلمي والثقافي. وقد أتقن إلقاء الدروس على طلابه، وكان حسن الأسلوب، وثقته بنفسه كبيرة، وساعده في ذلك أنّه كان ذا هيبة ووقار، ومعرفة واسعة، ولكلّ سؤال لديه جواب. تكفي شهادة السيد محسن الأمين به، حيث كان يقول عنه: «إنّه معلمنا وأستاذنا، ونلجأ إليه في أصعب المسائل».
أما المرحلة الثالثة من حياة الشيخ موسى، فيتحدث عنها الكاتب أنّها كانت في عيناثا، حيث صاهر الشيخ هذه البلدة التي تُعدّ من الحواضر العلمية المهمة في جبل عامل.
وقد ازدهرت «مدرسة عيناثا» بعد أفول نجم «مدرسة بنت جبيل» التي فقدت مؤسسها، وإقفال «مدرسة شقراء» التي كان الشيخ موسى المدرس الأول فيها. انتقل معظم الطلاب إلى عيناثا، يدرسون هناك على يدي السيد نجيب فضل الله والشيخ موسى
مغنية.
إنّ هذه المرحلة الثالثة من حياة الشيخ موسى مغنية كانت مهمة جداً وغنية، حتّى إنّ نهضة عيناثا على المستوى العلمي، التي بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر واستمرت إلى الثلث الأول من القرن العشرين، ارتبطت بالشيخ موسى. فقد أسهم في إعادة بعث المدرسة الدينية، ثم أكمل المسيرة منفرداً بعد وفاة السيد نجيب فضل الله، عاملاً على متابعة التعليم خارج جدران المدرسة، ومنطلقاً من مبدأ أنّ المعلم هو المدرسة، وأنّ المدرسة هي المعلم. ولذلك فإنّه كان يُدرّس اللغة والفقه والأصول من سنة 1917 حتّى سنة 1939.
يعرض الكاتب أسماء مجموعة من الطلاب الذين تعلموا على يديه، وبعضهم تابع الدراسة في جامعات النجف الأشرف، ومنهم الفقهاء الكبار والشعراء المرموقون ورواد الأدب والنهضة العاملية واللبنانية.
ثم ينتقل الكاتب إلى الحديث عن الشيخ موسى مغنية الشاعر والفقيه. فقد كان شاعراً وناقداً وحجة في اللغة والأدب، لكن يبدو أن معظم تراثه الشعري والفقهي مفقود، ولم يعثر إلّا على قصاصات مبعثرة، ومخطوطة وحيدة، هي منظومة شعرية، في ميدان فقهي صعب، هو الإرث، وقد نُشرت في هذا الكتاب.
في المجال الشعري ـــــ كما يورد الكاتب ـــــ لم يعثر للشيخ موسى إلا على قصيدة واحدة بمطلع غزلي جميل يقول فيه: «وخودٍ من الغيد الكواعب زانها/ من العيش صفو لم ترنق مناهله»، إضافة إلى تخميس لقصائد لأبي فراس.
بالنسبة إلى المنظومة الفقهية، فقد أجاد الكاتب في عرضها، مع مضامينها، وشروحاتها وأبوابها المختلفة، بحيث جاءت شرحاً وافياً لأهم المسائل صعوبة وتعقيداً في المجتمع، ألا وهي مسألة الإرث، التي يدخل العلم الرياضي أساساً في حلّها وشرحها.
وهذه المنظومة تدلّل على المستوى الفقهي للشيخ، وهي تؤرخ لعصر من عصور الفقهاء الكبار، وفيها تراث أدبي مميز، وفن من فنون الأدب والشعر الفقهي في الرسالة العلمية. ويمكن
القول إنّها ديوان في قصيدة بكل معنى الكلمة